الرثاء الأليم في الأندلس ومعاهدة قشتالة

أبو البقاء وقيل أبي البقاء أما نسبه الكامل هو/
أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي وهو من أبناء
( رندة ) في الجزيرة الخضراء بالأندلس وإليها كنيته. ولد في  سنة (601هـ - 1204م)  وتوفيَ سنة (684هـ - 1285م) .

عاصر أبي البقاء أشد الفتن والاضطرابات التي وقعت في الأندلس وشهد سقوط عدد المدن الإسلامية في يد الصليبين وكذلك تنازل بعض حكامها وقادتها بسبب الضعف وأحياناً بسبب الجشع والخيانات الداخلية، وأبرزها معاهدة ( قشتالة ) في عام (643هـ - 1245م) في نفس العام التي سقطت فيه كل من (جيان) و (فيسنة). وكان طرفي المعاهدة أو الإتفاقية هما؛
الملك فرناندو الثالث ملك قشتالة  و ابن الأحمر الذي يتزعم ولاية غرناطة، ويعقد معه معاهدة يضمن له فيها بعض الحقوق ويأخذ عليه بعض الشروط والواجبات.

ابن الأحمر هو محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر، والذي ينتهي نسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي صاحب رسول الله لكن شتّان بين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر هذا، وبين سعد بن عبادة الخزرجي، وقد سُمّي بابن الأحمر لاحمرار لون شعره، مم يعني بأن هذا ليسَ اسماً له، بل لقبا له ولأبنائه من بعده حتى نهاية حكم المسلمين في غرناطة.

ونذكر بنود المعاهدة التي اتفق علها اغلب المؤرخين والفقهاء القانونيين في عصرنا هذا والتي تمت بين ملك قشتالة وبين محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر :

1. أن يدفع ابن الأحمر الجزية إلى ملك قشتالة، وكانت مائة وخمسين ألف دينار من الذهب سنوياً.
(وكان هذا تجسيدا لحال الأمة الإسلامية، وتعبيراً عن مدى التهاوي والسقوط الذريع بعد ان غابت شمس دولة الموحدين القوية المهابة، والتي كانت قد فرضت سيطرتها على أطراف كثيرة من بلاد الأندلس وإفريقيا)

2. أن يحضر بلاطه كأحد ولاته على البلاد.
(وفي هذا تكون غرناطة تابعة لقشتالة ضمنياً)

3. أن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة علانية.
(وبهذا يكون ملك قشتالة قد أتم وضمن تبعية غرناطة له تماما)

4. أن يسلمه ما بقي من حصون ( جيّان ) المدينة التي سقطت أخيراً  وأرجونه وغرب الجزيرة الخضراء حتى طرف الغار، وحصون أخرى كثيرة تقع كلها في غرب غرناطة.
(وبذلك يكون ابن الأحمر قد سلم لفرناندو الثالث ملك قشتالة مواقع في غاية الأهمية تحيط بغرناطة نفسها)

5. على ابن الأحمر أن يساعد ملك قشتالة في حروبه ضد أعدائه إذا احتاج إلى ذلك.
(وهو أمر في غاية الخطورة،  أي أن ابن الأحمر يشترك مع ملك قشتالة في حروب ملك قشتالة التي يخوضها أيا كانت الدولة التي يحاربها، وبعد اقل من ثلاثة أعوام ساعد ابن الأحمر ملك قشتالة وقاد جيش المسلمين تحت إمرة جيش قشتالة لحصار مدينة أشبيلية الإسلامية لمدة سبعة عشر شهراً لتسقط أشبيلية في السابع والعشرين من شهر مضان لسنة 646 هـ - 1248م )



يقول ابي البقاء الرندي في رثاء الاندلس:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وهذه الدار لا تُبقي على أحد ولا يدوم على حالٍ لها شان

يُمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ

وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ كان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان

أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ ؟

وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟

وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ ؟

أتى على الكُل أمر لا مَرد له حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا

وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ

دارَ الزّمانُ على (دارا) وقاتِلِه وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ

كأنما الصَّعب لم يسْهُل له سببُ يومًا ولا مَلكَ الدُنيا سُليمانُ

فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعة وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ

وللحوادث سُلوان يسهلها وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ

دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له هوى له أُحدٌ وانهدْ ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فامتحنتْ حتى خَلت منه أقطارٌ وبُلدانُ

فاسأل بلنسيةً ما شأنُ مُرسيةً وأينَ شاطبةٌ أمْ أينَ جَيَّانُ

وأين قُرطبةٌ دارُ العلوم فكم من عالمٍ قد سما فيها له شانُ

وأين حْمصُ وما تحويه من نزهٍ ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ

قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ

على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ

وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ ؟

تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ

يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً كأنها في مجال السبقِ عقبانُ

وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفةُ كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ

أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ ؟

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ؟

لماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ ؟

ألا نفوسٌ أبياتٌ لها هممٌ أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ أحال حالهمْ جورُ وطُغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمّ وطفلٍ حيلَ بينهما كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ


لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق